Take a fresh look at your lifestyle.

مبادرة الحكم الذاتي كحل نهائي لقضية الصحراء المغربية: من الواقعية السياسية إلى المشروعية الدولية

0

بقلم: الدكتور الغالي الغيلاني – أستاذ العلوم القانونية بجامعة القاضي عياض بمراكش و استاذ عضو بجامعة الامم المتحدة للسلم UPEACE و المركز الإفريقي للذكاء الاستراتيجي ورئيس المركز الدبلوماسي الدولي
مدخل: من زمن النزاع المسلح إلى زمن الحل الدبلوماسي السلمي

تشكل قضية الصحراء المغربية منذ عقود إحدى أبرز النازعات الإقليمية التي شغلت المنتظم الدولي، وظلت موضوع سجال و نقاش مستمر داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. غير أن التحولات الجيوسياسية الراهنة، والتغيرات العميقة في موازين القوى الإقليمية و القارية و الدولية، أفرزت واقعًا جيو سياسي و استراتيجي جديدًا جعل من مبادرة الحكم الذاتي التي تقدمت بها المملكة المغربية سنة 2007، الإطار الوحيد و الأوحد ،الواقعي والعملي و الرامي قدما نحو تسوية نهائية لهذا النزاع الإقليمي وفق معايير القرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن .
لقد نقلت الدبلوماسية الملكية ملف قضية الصحراء المغربية من مرحلة إدارة الأزمة وتدبيرها إلى مرحلة التغيير و بلورة الحل النهائي لهذه القضية التي دامت زهاء نصف قرن، بفضل المنهجية الجديدة للدبلوماسية الملكية التي جمعت بين الحزم و العزم و بين الشرعية الدولية والمرجعية الوطنية في تدبيرها لملف الوحدة الترابية من خلال طرح مباردة دبلوماسية استباقية للتفاوض على مبادرة الحكم ذاتي لجهة الصحراء التي حظيت بإشادة متكررة من مجلس الأمن منذ سنة 2007 الى غاية اخر قرار له رقم 2756 سنة 2024 و الذي أكد على سمو مبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها مبادرة «جدية وواقعية و ذات مصداقية»،فضلاً عن الدعم المتنامي الذي عبّرت عنه أكثر من 120 دولة أي حوالي 60 في المائة من الدول أعضاء منظمة الأمم المتحدة، ناهيك عن التمثيل القنصلي المتزايد لحوالي 30 دولة في مدينتي العيون والداخلة و تنامي زخم تجميد و سحب الاعتراف بما يسمى ” الجمهورية الصحراوية ” الذي لا تعترف بها منظمة الأمم المتحدة فقط، بل أزيد من 85 في المائة من الدول أعضاء المنظمة الأممية، ناهيك عن استبعاد هذا الكيان الانفصالي من المشاركة في أشغال قمم الشركات المشتركة بين إفريقيا و الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا والصين و إندونيسيا و الهند الخ…
أولًا: من فشل مسلسل الاستفتاء إلى انبثاق المبادرة المغربية للحكم الذاتي كتعبير ديمقراطي لتقرير المصير
بعد سنوات طويلة من المحاولات الأممية لتنظيم استفتاء كألية من ضمن آليات تقرير المصير، أدرك المجتمع الدولي و مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة استحالة تطبيق هذا الخيار بالنظر إلى التعقيدات القانونية والواقعية التي تحيط به وهو ما دفع بمجلس الأمن منذ سنة 2004 إلى طي مسلسل الاستفتاء بشكل نهائي معتمدا على معايير جديدة لحل سياسي عادل واقعي و دائم و متوافق عليه بين جميع الأطراف المعنية بهذا النزاع الإقليمي ( المغرب ، الجزائر، موريتانيا و جبهة البوليساريو).
و بناء عليه تقدمت المملكة المغربية سنة 2007 بمبادرة شجاعة للتفاوض على منح جهة الصحراء حكمًا ذاتيًا موسعًا في إطار السيادة والوحدة الوطنية، وفق مقاربة تستند إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة والتجارب و الأنظمة الدستورية و القانوية القريبة جغرافيا و سياسيا من النموذج الترابي للمملكة المغربية.
ان المبادرة المغربية لم تكن ردة فعل دبلوماسي او مجرد مقترح سياسي لكسب المزيد من الوقت السياسي او إدارة النزاع ، بل كانت رؤية ملكية استراتيجية و إصلاحية شاملة و متعددة الأبعاد تسعى إلى تمكين ساكنة الصحراء من تدبير شؤونهم بأنفسهم بطريقة ديمقراطية عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية محلية مع تخصيص موارد مالية واقتصادية مستقلة للجهة ، في المقابل احتفاظ الدولة المغربية ضمن مفهوم دولة الجهات الامركزية باختصاصاتها السيادية في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والرموز الوطنية والاختصاصات الدستورية و القانونية و الدينية للملك.
ثانيًا: الحكم الذاتي في ضوء معايير القانون الدولي
منذ تبني ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945، أضحى مبدأ تقرير المصير أحد أسس النظام الدولي الجديد، لكنه ظل مبدأً معقد التطبيق وغير محدد من حيث المفاهيم و الآليات و النطاق ، لاسيما وأن المواثيق الدولية ربطته بعدم المساس بالوحدة الترابية للدول وسلامتها الإقليمية باعتبارها مبادئ سامية في القانون الدولي. وفي هذا الصدد ، أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 1514 (لسنة 1960) و2625 (لسنة 1970) أن ممارسة هذا الحق يجب أن يتم في احترام السيادة الوطنية وسلامة أراضي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ،بل اكثر من ذلك ان الفقرتين 5 و 6 من إعلان الجمعية العامة رقم 1514 يعتبر أن اي محاولة عند تطبيق هذا المبدأ من شأنها المساس بالسيادة الوطنية و السلامة الإقليمية للدول الأعضاء يعد تقويضا وخرقا جوهريا لميثاق الأمم المتحدة.
وفي ضوء هذه المرجعيات الدولية، يتضح أن مبادرة الحكم الذاتي المغربية لا تتناقض مع مبدأ تقرير المصير، بل تندرج ضمن نطاقه الديمقراطي الداخلي ، إذ تتيح لسكان الصحراء المشاركة الفعلية في تدبير شؤونهم من جهة ، في مسلسل تنمية وطنهم وفق جميع الضمانات الدستورية والحقوقية كما هي متعارف عليها دوليا ضمن إطار سيادة المملكة المغربية من جهة أخرى.

ثالثًا: المبادرة المغربية ومنظومة حقوق الإنسان الكونية
إحدى أبرز نقاط قوة المقترح المغربي تكمن في انسجامه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، من خلال ضمان الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسكان الأقاليم الجنوبية.

في الشق المدني والسياسي، يعزز الحكم الذاتي قيم الديمقراطية التشاركية والمواطنة الكاملة ، إذ يتيح لسكان الجهة انتخاب مؤسساتهم السياسية، و التشريعية التمثيلية بحرية، ويضمن تمثيلية عادلة للنساء والشباب، بشكل يرسخ مبادئ الديمقراطية التشاركية و سيادة القانون والفصل بين السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية على مستوى الجهة.
أما في الشق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فيضمن المشروع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لسكان الجهة من خلال توزيع عادل للثروات وتخصيص موارد مالية مستقلة، مع عناية خاصة بالهوية والثقافة الحسانية كرافد من روافد الهوية المغربية المتعددة.

رابعًا: الدينامية الدبلوماسية والتحولات الدولية
عرف ملف الصحراء المغربية خلال السنوات الأخيرة تحولًا استراتيجيًا ومنعطفا تاريخيا عميقًا نقل القضية من مرحلة الجمود و حالة الستاتيكوا إلى مرحلة الزخم السياسي و الدبلوماسي عبر اطلاق مسلسل الاعتراف الدولي الواسع ليس فقط بالمبادرة المغربية ،بل ايضا بسيادة المملكة المغربية على الصحراء و عزم دول وازنة في النظام العالمي و أعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن و مجموعة اصدقاء الصحراء (الولايات المتحدة الأمريكية،فرنسا،بريطانيا، اسبانيا، روسيا) ابرام اتفاقيات اقتصادية و تجارية يشمل نطاق تطبيقها جهة الصحراء في مؤشر واضح على الاعتراف الواقعي و العملي و الاقتصادي بمغربية الصحراء.

غير ان الأكثر دلالة هو الموقف الجديد لقوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة، التي اعتبرت المبادرة المغربية «الأساس الجدي والوحيد» للتسوية. كما نجحت الدبلوماسية المغربية في تأكيد حصرية إشراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن على المسار السياسي في اطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (تسوية النزاعات بالطرق السلمية) خاصة بعد نجاح الدبلوماسية الملكية في تحييد الدور السلبي للإتحاد الإفريقي في تدبيره لهذا الملف بموجب قرار القمة الافريقي بنواكشط رقم 693 المؤرخ في سنة 2017 .

مبادرة وطنية برؤية أممية:
لقد أثبتت التجربة وحنكة الدبلوماسية الملكية أن مقترح الحكم الذاتي المغربي ليس مجرد مبادرة تفاوضية ، بل هو مشروع وطني استراتيجي يترجم إرادة سياسية عميقة نحو آفاق الحل السياسي النهائي والسلمي الدائم والمستدام الذي يترجم معادلة سياسية “لا غالب و لامغلوب” ، و يحقق الأبعاد الثلاثية التنمية و الأمن و الاستقرار ،زد على ذلك يوفق بين مقتضيات السيادة الوطنية وتطلعات سكان الصحراء وخصوصياتهم السوسيو اجتماعية و السياسية و التاريخية ، ويستجيب في الوقت ذاته للمعايير الدولية و الأممية و لمبادئ للدبلوماسية المغربية المرتكزة على احترام السيادة والسلامة الاقليمية للدول و نبذ اللجوء إلى العنف و تسوية النزاعات بالطرق السلمية و احترام المواثيق الدولية .

إن هذه المبادرة التي تجاوزت مرحلة المقترح إلى الأساس الوحيد و الأوحد للتفاوض، يقدم نموذجًا جديدًا لتسوية النزاعات الإقليمية على المستويات الإقليمية والقارية الافريقية والدولية و تحويل الأزمات الاقليمية و النزاع المسلحة الى فرصة سانحة للتنمية الشاملة والمندمجة في اطار تكريس الحكامة الترابية و العدالة المجالية بين مختلف مناطق وجهات الدولة ، حيث تتقاطع معايير القانون الدولي مع الخصوصية الوطنية، وتتجسد فيه قيم الديمقراطية و السلم و الأمن و العدالة و الكرامة و التنمية في آن واحد .

 

ومن ثم، فإن نجاح المغرب في حشد التأييد الإقليمي والقاري و الدولي للحكم الذاتي كمبادرة تجاوزت البعد الوطني لتصبح مبادرة استباقية بزخم دولي هو انتصار لنهج الواقعية السياسية والشرعية القانونية، ورسالة واضحة بأن الحل النهائي لقضية الصحراء المغربية لم و لن يكون إلا في إطار الحكم الذاتي الموسع تحت سيادة الدولة المغربية التي رسمت خطوطا حمراء للمسلسل الأممي حول قضية الصحراء في ان المغرب لن يتفاوض على سيادته و وحدته الترابية و الوطنية ،كما أن مبادرة الحكم الذاتي هي نقطة النهاية والوصول وليست البداية للتوصل إلى تسوية نهائية و مستدامة لهذا النزاع الإقليمي المعقد الذي عمر زهاء خمسين سنة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.