الحافظ ملعين – العيون
في لحظة دقيقة من تاريخ البلاد، وعبر رسالة ملكية وازنة صدرت في 26 فبراير 2025، دعا الملك محمد السادس، بصفته أميرا للمؤمنين، المغاربة إلى الامتناع عن أداء شعيرة ذبح الأضحية هذا العام، مراعاة للظروف الاقتصادية والبيئية التي تمر بها المملكة. القرار لم يكن عاديا، بل اتكأ على مرجعيات شرعية راسخة، ومقاصد دينية سامية، وحس عال بالمسؤولية.
غير أن ما يثير القلق اليوم، هو تسرب أنباء عن قيام عدد من المواطنين باقتناء الأضاحي وإخفائها داخل بيوتهم، ضاربين عرض الحائط بنداء ولي الأمر، ومقدمين على فعل لا يمكن تفسيره إلا بكونه نوعا من العصيان المدني المغلف بمشاعر دينية لا تقلق على الدين بقدر ما تتمسك بمظاهر تعبدية جوفاء.
في مثل هذه اللحظات، تختبر معاني المواطنة الحقة. هل نطيع حين نحب، ونعصي حين لا يوافق القرار هوانا؟ هل ننتقي من الدين ما يوافق عاداتنا، ونتجاهل ما يبنى على فقه المقاصد وتقدير الضرورات؟ ما جدوى الانتماء، إن كان كل فرد سيجعل من مصلحته مرجعا فوق مصلحة الأمة، ومن رغبته الشخصية ميزانا يتجاوز صوت الشرع والعقل والدولة؟
الفقهاء واضحون، طاعة ولي الأمر ليست خيارا ظرفيا، بل مبدأ قرآني، امتثالا لقوله تعالى”يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..” ومن يتجاوز هذا الخط، إنما يفتح بابا للفوضى، ويدمر تدريجيا أسس الوحدة والاستقرار.
والأدهى من ذلك، أن من يقدمون على هذا السلوك لا يخالفون فقط أوامر الدولة، بل يعلمون أبناءهم التمرد والاحتيال، وكأن “المراوغة” أصبحت جزءا من الإرث الثقافي الذي يورث للأجيال. أي نموذج قدوة يبنى حين يرى الطفل والده يدخل الكبش إلى المنزل خفية، وكأن الأمر سرقة من القانون أو تحدّ صامت للملك نفسه؟
القرار الملكي لم يمنع فرحة العيد، بل أعاد توجيهها إلى معانيها الحقيقية: صلاة، وصدقة، وصلة رحم. هو دعوة للتجرد من الاستهلاك والرياء، وللعودة إلى جوهر المناسبة كصلة بين العبد وربه، وبين الناس أنفسهم في تجليات التكافل والمواساة.
اقرأ أيضا…
المعطليين في العيون كلها ينتر من جيهتو…
السلطوية في العالم العربي بين الأفول والتجدد
حسناء شهابي تكتب : نحن وليدات المعلم
ثم إن التاريخ شاهد على ان المغرب ألغى الأضحية في سنوات 1963، 1981، و1996، في ظل ظروف مماثلة. لم تسقط السماء على رؤوسنا، ولم تتوقف الحياة. بل ساد الشعور بالمسؤولية والانتماء، لأن القرار كان دوما من أجل المواطن، لا ضده.
الآن، وقد قررت الدولة التعامل بحزم مع كل مخالفة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بتنفيذ القانون، بل بترسيخ مبدأ، لأننا في دولة يحكمها منطق الشرع والعقل، لا أهواء الأفراد. والمرجع هنا ليس مؤسسة عادية، بل إمارة المؤمنين، التي تمثل الضمانة الدينية والدستورية العليا في البلاد.
في نهاية المطاف، لسنا أمام مسألة دينية شكلية، ولا أمام اختبار تقني للقانون، بل أمام لحظة فاصلة تعيد طرح سؤال الانتماء في معناه الأعمق.
هل نرى في الدولة امتدادا لوعينا الجماعي، أم نتمترس خلف ذواتنا الفردية كلما دعينا للتضحية من أجل الصالح العام؟
إن الخضوع لقرارات ولي الأمر، حين تكون مبنية على الحكمة الشرعية والمصلحة الوطنية، ليس ضعفا ولا انقيادا أعمى، بل هو تعبير ناضج عن مواطنة راشدة تقدّر الظروف، وتعلي من قيمة التماسك الجماعي فوق نزوات الاستهلاك أو العادات الموروثة.
المغرب اليوم لا يحتاج فقط إلى برامج إصلاح، بل إلى ضمير جماعي حي، يترجم الطاعة إلى وعي، والانضباط إلى شرف، والالتزام إلى تعاقد أخلاقي مع الوطن.
فأن تكون مواطنا، لا يعني فقط أن تحب بلدك في خطاب، بل أن تبرهن على هذا الحب في لحظة تنفذ فيها الأمر ، وتغلق فيها باب الفوضى ، لتبقي على ما هو أقدس، وحدة الصف، وقدسية القرار، وسلامة المستقبل